عندما تأكد «جان - فرنسوا شارنييه» - المدير العلمي لوكالة متاحف فرنسا - من وجود مخطوطة من كتاب «المناظر» للعالم العربي «ابن الهيثم» في «مكتبة فرنسا الوطنية»، شعر بحدسه الفني العالي بأنه قد وجد ضالته. سارع «شارنييه»، الذي كان موكلا مع فريق عمل متكامل بإخراج وتنفيذ متحف اللوفر أبوظبي بشكل عالمي ومتفرد، بالتواصل مع القيمين في تلك المكتبة العريقة محاولاً إقناعهم بشتى الطرق أن يشتري منهم المخطوطة، إلا أنهم أكدوا له أن«الهازن»، (هكذا يسمى ابن الهيثم في اللغة الأجنبية)، ليس للبيع.. فالمخطوطات ملك «لمكتبة فرنسا الوطنية» منذ عام 1834 أي هي بالنسبة إليهم إرث تاريخي لا يستغنى عنه. بعد محاولات كثيرة دامت لأسابيع استطاع «شارنييه» إقناع المكتبة بأن تكون هذه المخطوطة ضمن الأعمال المعارة التي ستتوجه لمتحف «اللوفر أبوظبي» قبيل افتتاحه.

عندما نعلم من هو هذا العالم الموسوعي العربي وما هو تأثيره على الفن العالمي والأوروبي بالتحديد سنفهم حتماً وجهة نظر القيمين على المتحف، ولماذا أرادوا أن تكون هذه المخطوطة بالتحديد دانة الصالة رقم سبعة، في الجناح الثالث من المتحف، وهي الصالة المخصصة لروائع فنون عصر النهضة.

ابن الهيثم
أبو علي الحسن بن الحسين بن الهيثم البصري، ولد في البصرة عام 965 م وتوفي في القاهرة عام 1040م، لقبه «ابن الهيثم». هو رائد في علم البصريات والعلوم والفيزياء والمنهج العلمي والتجربة والإدراك البصري والهندسة. إنه أول من درس حدقة العين وبرهن رياضياً وهندسياً أن العين تبصر وترى بوساطة انعكاس الإشعاعات من الأشياء المرئية على العين وليس بوساطة شعاع ينبثق من العين إلى الأشياء فألغى بذلك نظرية «بطليموس» العالم والفيلسوف اليوناني التي سادت قبل ذلك لمئات السنين. أجرى أبحاثاً حول العدسات مهدت لتصميم وإنتاج النظارات والمجاهر والتلسكوبات. كان سابقاً لعصره بأشواط ولقب بـ «أبو المنهج العلمي الحديث».
أما كتاب «المناظر»، الذي يعرض متحف اللوفر أبوظبي الآن النسخة المترجمة منه إلى اللغة اللاتينية، فيعد أنفس مؤلفاته ويشتمل على بحوث في الضوء وتشريح العين والرؤية.
أكدت الكاتبة الألمانية «زيغريد هونكه» في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب» تفوق ابن الهيثم في العديد من المجالات وتأثر الغرب تأثراً بالغاً بعلومه وكتاباته حتى وصلت إلى القول بأن اسحق نيوتن، كان من الذين تأثروا بشدة بنظرياته، تقول: «كان أحد أكثر معلمي العرب في بلاد الغرب أثراً وتأثيراً».
ويشرح لنا محمد عبدلله المنصوري، أمين متحف مساعد في اللوفر أبوظبي، هدف وجود هذه المخطوطة في هذا القسم بالتحديد فيقول: «إن رؤية تلك المخطوطة اللاتينية لترجمة كتاب «المناظر» لابن الهيثم تتربع بين لوحات من الفن العالمي استعان رسّاموها بنظرياته العبقرية في البعد الثالث وانعكاس الضوء (انحراف الصورة عند مرور شعاع ضوئي من خلالها) ونظريته في قوانين قياس المثلثات وظل الزاوية، ستجعلنا حتما نشعر بالفخر. فذلك العالم الذي تمكن من تحديد ظاهرة الوهم (التي تقارن بين شيئين أحدهما قريب من مجال الرؤية والآخر بعيد فيظهر للإنسان أن الشيء القريب هو البعيد) استطاع أيضاً أن يعمل على تحليل الألوان مما جعله مرجعاً مهماً لمعظم عباقرة فن الرسم والهندسة في أوروبا على مرّ سنوات عصر النهضة».
إذاً فإن الرسالة التي أراد اللوفر أبوظبي إيصالها عندما وضع مخطوطة العربي المسلم ابن الهيثم بين لوحات من الفن العالمي لرسامين مشهورين، أمثال الإيطالي «ليوناردو دافنشي» والهولندي «ديريك فان ديلين» والفرنسي «جاك لويس دافيد» وغيرهم، تكمن في رؤية الدور الانعكاسي الذي لعبته الشعوب فيما بينها ليتولد منها فن من أرقى ما قد تراه العين وجمال تعشقه الروح بلا استئذان.

ابن ماجد
وإن أردنا أن نتكلم عن المخطوطات العربية الثمينة في متحف اللوفر أبوظبي فعلينا ألا ننسى طبعاً مخطوطة «ابن ماجد» التي واجهت أحداثا مماثلة لتلك التي واجهتها مخطوطة «ابن الهيثم» كي تعرض في قسم خاص بفنون الأسفار والاكتشافات الجغرافية في المتحف، لكن بفارق بسيط هو أن مخطوطة ابن ماجد ليست مترجمة بل نسخة أصلية ومكتوبة باللغة العربية.
إنها جزء من كتاب بعنوان «مختصر علم الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» كتبه أحمد بن ماجد بن محمد السعدي عام 1490م والذي يعتبر أهم ما كتب في علم الملاحة البحرية بشكل عام وفي المحيط الهندي بشكل خاص حيث يلقي الضوء من خلاله على مدى تأثر البرتغال بعلوم المسلمين.
هو بحار عربي مسلم من إمارة رأس الخيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكانت تسمى فيما مضى جلفار. عاش بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر ميلادي. برع في علم الفلك، الملاحة والجغرافيا، فلقب بـ «معلم بحر الهند».
كان ابن ماجد خبيراً ملاحياً في البحر الأحمر وخليج بربرا والمحيط الهندي وبحر الصين. ارتبط اسمه بالرحلة الشهيرة حول رأس الرجاء الصالح إلى الهند حيث قام بمساعدة «فاسكو دي غاما» (أشهر الملاحين البرتغاليين) لاكتشاف طريق جديد يوصل إلى الهند، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البحر بين شرقي أفريقيا والهند بحر خطر يصعب عبوره. إن وجود تلك المخطوطة لأمير البحر (كما أطلق عليه البرتغاليون) بين عدد من الخرائط والمخطوطات العالمية التي أرست القانون الجغرافي والملاحي في العالم لمئات السنين هو تأكيد على دورنا المهم في هذا المجال كما في معظم المجالات الأخرى.

اختلاف لا استنساخ
منذ ولادة فكرة إنشاء متحف «اللوفر الفرنسي» بنسخته العربية في عاصمة الإمارات العربية المتحدة، أدرك القيمون على تنفيذ هذا الصرح العالمي أنهم أمام تحد كبير. فما بين فكرة النسخ الأعمى لمفهوم متحف «اللوفر الفرنسي» وبين فكرة الاختلاف الواضح الذي يحمل ملامح الشرق والإسلام بين طياته.. كان القرار أن نتميّز دون أن ننعزل.
ففي «اللوفر باريس»، كما في أغلب المتاحف العالمية، نجد جناحاً خاصاً للفن الإغريقي، وآخر للفرعوني، وآخر للإسلامي، وآخر للأيقونات البيزنطية، وهكذا دواليك.. ليأتي «اللوفر أبوظبي» فارضاً منظوراً جديداً في منظومة عالم المتاحف.. فهنا، في متحف عاصمة الإمارات العربية المتحدة، ما عاد الفن يقسم على حسب العرق والدين والحقبة الزمنية، بل يخضع لمعايير تاريخ الفنون الإنسانية فقط، لذا قسم «اللوفر أبوظبي» إلى أربعة أجنحة موزعة على 12 قسماً: جناح العصر القديم، جناح العصور الوسطى، جناح عصر النهضة وجناح الفن الحديث.
فهذا المتحف بالتحديد لم يشيّد ليرى العالم العرب من خلاله كفصل من فصول الإنسانية بل ليرانا الجميع، ولنرى أنفسنا أيضاً، متداخلين متناغمين وأحيانا كثيرة مترابطين وبشدة مع الإنسانية جمعاء.
أما السّر.. كل السّر في تميّز هذا المتحف الذي تنتشر معروضاته على مساحة 6400 متر مكعب فيكمن في فكره المتفرد، كفكرة عرض مصباح المسجد المسمى «النور» مثلا على مسافة من شبيهه الفرنسي دون أن نستطيع تحديد أي منهما ينحدر فعلا من أصول عربية!
«فالنور» المصباح الذي يعود إلى عصر المماليك (أي بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر)، أسر ألباب الفرنسيين عندما عرض في صالوناتهم الفنية في أواسط القرن التاسع عشر.. مما حدا بالحرفيين الفرنسيين امثال «فيليب - جوزيف بروكار» وغيره، إلى صناعة أشكال زجاجية تحاكية ببراعة الشكل والإتقان.
أما المزهرية النحاسية ذات الشكل الفريد المعروفة باسم مزهرية «باربريني» والتي تنسب لـ «داوود بن سلامة الموصلي» فهي على الأرجح مصنوعة في دمشق أو حلب بين عامي 1239 و1260م، وقد انضمت هذه القطعة المستعارة من قسم الفن الإسلامي من متحف «اللوفر باريس» إلى المجموعة الفنية «اللوفر أبوظبي» عام 1899 بعد أن كانت ضمن المجموعة الفنية للبابا أوربان الثامن «باربريني».
وكانت كنائس الفاتيكان في ذلك العصر تعدّ دانة المتاحف العالمية التي تضم أثمن الأعمال الفنية وأجملها. ووجود هذه المزهرية التي تجمع نقوشها العربية بين صيغ التمنيات وألقاب آخر سلطان أيوبي لحلب ودمشق «الناصر صلاح الدين يوسف» بين مجموعة الفاتيكان الخاصة، وبعدها بين مجموعة المتحف العالمي الأكثر شهرة «اللوفر- باريس» دليل واضح وأكيد على تميّز وجمال الفن العربي والإسلامي وسعة شهرته بين الشعوب الأخرى.
تقول مريم الظاهري - اختصاصي أول اتصال في متحف اللوفر أبوظبي: «إذا أردنا أن نفهم الفكر المتفرد لمتحف اللوفر أبوظبي علينا أن نفتح أذهاننا قبل أعيننا لنرى الرسالة التي يقدمها المتحف للعالم، ففكرة الانصهار والتمازج والتبادل الفكري بين الحضارات، تتجلى بتواجد الجرار الفخارية الأثرية التي احترفها العرب لآلاف السنين بمحاذاة جرار أخرى تشابهها لكن بنكهة إغريقية، آسيوية وأفريقية».
وتضيف مريم: «عندما نعاين السيراميك والنحاسيات الدمشقية والمصرية والعراقية التي تزينها الرسومات والأحرف العربية نشعر وكأنها تكاد تنطق أمام مثيلاتها الآتية من أوروبا وآسيا الوسطى لتقول إننا كنا من أوائل الشعوب التي صنعت من الفن حرفة.. وهذا ما لم يتطرق إليه قبلا أي من المتاحف العالمية على الإطلاق».
فيا أيها الباحث عن آثارك وذخائر حضارتك العربية والإسلامية في جناح «القسم العربي والإسلامي» في «اللوفر أبوظبي»، توقف.. فلن تجدها.. لأن ماهية رسالة هذا المتحف تكمن في وجودنا الواضح والصريح كحجر مساعد، وأحيانا كثيرة كحجر أساس، لجميع الحضارات والفنون الأخرى. فالحضارات التي لم تأخذ منا، قلدتنا.. وتلك التي لم تنبعث منا، حاورتنا.
كان الرهان في بناء وفكرة هذا المتحف أن ننتمي إلى الفن العالمي.. وأن نؤكد وجودنا وهويتنا دون أن نصاب أو نتهم بمرض «التوحد» الإنساني. كان الهدف أن نبني جسوراً من الألفة بين عراقتنا وكنوزنا التاريخية وبين الفن العالمي.
كانت الرسالة إثبات وجهة النظر التي تبناها أصحاب القرار في الإمارات منذ تأسيسها على يد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بأننا لسنا مختلفين لكننا بلا شك متميزون بتاريخنا، بعراقتنا، ببصمتنا العربية وإرثنا الإسلامي.
فالرحلة في اللوفر أبوظبي تبدأ بالفن العربي وتنتهي بالفكر العربي لكن باندماج تام مع الفنون والأفكار الأخرى. فمن تمثال «عين غزال» الضخم المصنوع من مادة الجص والذي قد يتجاوز عمره الثمانية آلاف سنة يبدأ تاريخ الفنون بحسب تقويم معظم المتاحف العالمية، هو عبارة عن تمثال نصفي ذي وجهين من أقدم التماثيل الأثرية الضخمة في تاريخ البشرية، استطعنا استعارته من الأردن، مسقط رأسه، لمدة خمسة أعوام ليكون أول ما تراه العين في جناح «العصر القديم» من المتحف. لتنتهي الرحلة بثلاث صفحات منقولة من كتاب المقدمة للعالم والفيلسوف العربي ابن خلدون. هذا الكتاب الذي يعد أطروحة متكاملة حول تدوين التاريخ، كتب في القرن الرابع عشر الهجري. أما الصفحات المنقولة منه، فهي محفورة بطول 11 م وعرض 11.5 م على جدار أبيض ضخم بيد الفنانة الأميركية «جيني هولزر» التي اختارت ثلاثة نصوص مختلفة، من ثقافات، لغات وحضارات مختلفة، ليحاكوا ويحاوروا في مضمونهم بعضهم بعضاً. حفرت على جدران متقاربة في قسم الفن الحديث من المتحف، وذلك كدلالة واضحة على حوار الحضارات الأزلي الذي نراه ساطعاً بأسمى معانيه هنا.. في متحفنا.. في متحف اللوفر أبوظبي.
فيا من تبحث عن نفسك وعن كنوز تاريخك وفنك تحت القبة الفولاذية لمتحف اللوفر بنسخته العربية، إن أنصتّ جيدا، تأكد أنك ستسمع متحف اللوفر في الإمارات العربية المتحدة «يتكلم عربي».